فظائع غزة- شهادات جنود إسرائيليين تكشف جرائم حرب مروعة وانتهاكات إنسانية.

المؤلف: د. محمود الحنفي09.27.2025
فظائع غزة- شهادات جنود إسرائيليين تكشف جرائم حرب مروعة وانتهاكات إنسانية.

في سياق بالغ الخطورة، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في الثامن عشر من ديسمبر لعام 2024 تقريرًا صادمًا، يكشف النقاب عن شهادات مروعة أدلى بها ضابط احتياط وعدد من الجنود الإسرائيليين، تفضح الممارسات الوحشية واللاإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة المحاصر.

بحسب ما ورد في التقرير المُفصّل، تحولت منطقة نتساريم إلى ما يشبه "ساحة إعدام مفتوحة"، حيث تلقى الجنود أوامر قاطعة بإطلاق النار عشوائيًا على كل من يجتازها دون أدنى تمييز، مما أدى إلى سقوط مئات الضحايا الفلسطينيين الأبرياء، الذين كان أغلبهم الساحق من المدنيين العزل.

وأفصح الضابط الشاهد عن أن التعليمات الصادرة إليهم كانت تتضمن توثيق جرائمهم بالصوت والصورة، حيث كان يُطلب منهم تصوير جثث القتلى وإرسالها كدليل على "إنجازاتهم". وكشف الضابط عن مفارقة مأساوية، فمن بين ما يقارب المائتي جثة التي تم تصويرها، كان عشرة فقط ينتمون إلى حركة حماس، بينما كان الباقون مدنيين أبرياء لا ذنب لهم.

ولم يقتصر الأمر على القتل العشوائي، بل امتد إلى التعامل المهين مع جثث الضحايا، حيث أشار التقرير المثير إلى أن جثث القتلى الفلسطينيين كانت تُترك في العراء دون أدنى اعتبار لحرمة الموت، لتتعفن وتتحلل أو لتصبح طعامًا للحيوانات الضالة، في انتهاك صارخ لكل القيم الإنسانية والأعراف الدولية الراسخة. وتوصف هذه الممارسات الشنيعة بأنها تجسيد لفقدان البوصلة الأخلاقية والإنسانية، وتحويل الجيش إلى مجرد "ميليشيا مسلحة منفلتة" تعمل دون أي وازع من ضمير أو التزام بالقانون.

وأكد الضابط الذي خدم في محور نتساريم أن الحرب الأخيرة على غزة شهدت غيابًا كاملاً لأي ضوابط أو قوانين، حيث كان كل قائد وجندي يتصرف كما يحلو له في المنطقة التي يسيطر عليها، مما أدى إلى ارتكاب فظائع وجرائم مروعة بحق المدنيين الأبرياء. وأضاف قائلاً: "يجب على الإسرائيليين أن يعلموا حقيقة ما يجري في غزة، فقد أصبحت حياة البشر هناك بلا قيمة، ونحن كجنود نتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية هذا الرعب الذي يحدث".

"كرامة الإنسان حيًا وميتًا" مبدأ قانوني

إن كرامة الإنسان هي حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وهي حق أصيل وغير قابل للتصرف يرافق الإنسان طوال حياته وحتى بعد مماته.

يستند هذا المبدأ الجوهري إلى العديد من النصوص القانونية الدولية، بما في ذلك المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تلزم باحترام جميع الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، بمن فيهم الموتى، والمادة 34 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، التي تضمن احترام جثث الموتى وتحظر التمثيل بها أو تدنيسها.

ويعكس هذا الالتزام الراسخ اعترافًا دوليًا بأن المساس بكرامة الإنسان بعد وفاته، من خلال التمثيل بجثثه أو تركها دون دفن لائق، يشكل انتهاكًا صارخًا للمبادئ الإنسانية والقانون الدولي على حد سواء.

أهمية التقرير ودلالاته

يكتسب هذا التقرير أهمية بالغة كونه يتضمن شهادات مباشرة من الداخل، صادرة عن جنود وضباط شاركوا بأنفسهم في العمليات العسكرية. هذه الشهادات تضفي مصداقية أكبر على الاتهامات التي لطالما وُجهت لجيش الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

ويمثل التقرير أداة حيوية لتوثيق الانتهاكات الممنهجة، مما يمكن المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان من استخدامه في إعداد ملفات قانونية قوية لتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الوطنية التي تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية.

كما يمكن أن يكون التقرير نقطة انطلاق لإطلاق دعوة عاجلة للأمم المتحدة لتشكيل لجان تقصي حقائق مستقلة ومحايدة، بهدف التحقيق في هذه الجرائم المزعومة وكشف الحقائق للرأي العام العالمي.

دوافع شهادات الجنود

على الرغم من أن النظام العسكري الإسرائيلي يمنح الجنود سلطات واسعة في الميدان تجعلهم أشبه بـ "قانون قائم بذاته"، إلا أن ذلك لا يلغي دوافعهم للإدلاء بشهادات تكشف الانتهاكات وتفضح الممارسات اللاإنسانية.

هذا النظام الذي يعتمد على الطاعة العمياء للأوامر العسكرية دون مساءلة مباشرة، قد يخلق شعورًا عميقًا بالندم والضغط النفسي لدى الجنود بعد انتهاء العمليات، خاصة عندما يدركون حجم الآثار الكارثية لأفعالهم على المدنيين الأبرياء.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التفويض الواسع لا يعفي الجنود من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، حيث يدفعهم الوازع الإنساني إلى فضح السياسات التي تسهل ارتكاب الجرائم، في محاولة لإصلاح النظام أو التنصل من المسؤولية الشخصية.

وتؤكد التحليلات الإسرائيلية أن شهادات الجنود غالبًا ما تكون مدفوعة بالرغبة في تسليط الضوء على الانتهاكات كوسيلة للتأثير على القيادة العسكرية العليا، وتحميلها المسؤولية عن القرارات المنهجية التي تقود إلى هذه الجرائم، مما يظهر تناقضًا صارخًا بين التفويض المطلق الممنوح للجنود والضغوط الأخلاقية والقانونية التي تواجههم.

ضرورة تدخل المحكمة الجنائية

إن الجرائم الموثقة في التقرير، بما في ذلك الاستهداف المتعمد والمنهجي للمدنيين وترك الجثث دون دفن لتتعفن أو تنهشها الكلاب، تشكل انتهاكًا سافرًا للقانون الدولي الإنساني، وتندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الأساسي.

من الناحية الموضوعية، تمثل هذه الأفعال جرائم حرب وفق المادة 8، وجرائم ضد الإنسانية وفق المادة 7، حيث يقدم التقرير أدلة دامغة على وجود سياسة ممنهجة تستهدف السكان المدنيين على نطاق واسع.

أما من الناحية المكانية، فإن وقوع هذه الجرائم على الأراضي الفلسطينية، التي تعد دولة طرفًا في نظام روما الأساسي منذ عام 2015، يمنح المحكمة الولاية القضائية للتحقيق فيها. وبالنسبة للاختصاص الزماني، فإن الجرائم المشار إليها وقعت بعد انضمام فلسطين إلى المحكمة، مما يجعلها مشمولة بالاختصاص الزمني للمحكمة.

وعليه، فإن تدخل المحكمة الجنائية الدولية أمر حتمي لا مفر منه لضمان تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، بما يرسخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب ويحقق الردع العام.

ويعد ضم الشهادات الواردة في التقرير إلى الملفات المقدمة للمحكمة خطوة محورية لتعزيز الأدلة وتأكيد الطبيعة الممنهجة لهذه الجرائم. كما يجب أن يشمل ملف المطلوبين أسماء قادة سياسيين وعسكريين متورطين في هذه الجرائم، مثل قادة الفرق العسكرية الذين أصدروا الأوامر بترك الجثث، والمسؤولين الحكوميين الذين دعموا هذه السياسات، لضمان محاسبة جميع المستويات القيادية.

تقرير هآرتس وصلاحية الأمم المتحدة في التحقيق

يتماشى التقرير الذي يوثق الانتهاكات الممنهجة ضد المدنيين في غزة مع اختصاصات الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان في حماية حقوق الإنسان وتعزيز المساءلة الدولية.

بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وتحديدًا المادة 55، يقع على عاتق الأمم المتحدة التزام بحماية الحقوق الأساسية وضمان احترام القانون الدولي الإنساني. كما أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يملك صلاحية قانونية لتشكيل لجان تحقيق مستقلة وفقًا لقراره رقم 5/1 لعام 2007، والذي يمنحه تفويضًا للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

وعلى غرار ذلك، سبق للمجلس أن أنشأ لجان تحقيق دولية في حالات مماثلة، مثل لجنة التحقيق بشأن النزاع في سوريا عام 2011 ولجنة تقصي الحقائق في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني عقب عمليات غزة 2009 (تقرير غولدستون).

ويشكل التقرير الحالي دعامة إضافية لدعوة مجلس حقوق الإنسان إلى تشكيل لجنة تحقيق دائمة بشأن الجرائم المرتكبة في غزة، مما يعزز الاختصاص القانوني للأمم المتحدة في مراقبة امتثال الدول لأحكام القانون الدولي الإنساني وضمان تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب.

التقرير ومنظمات حقوق الإنسان

يمثل تقرير هآرتس قيمة عظيمة لمنظمات حقوق الإنسان الدولية والوطنية، حيث يعد دليلًا إضافيًا على الإفلات المستمر من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد المدنيين الفلسطينيين.

بالنسبة للمنظمات الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية (أمنستي)، يتقاطع التقرير مع جهودها في توثيق الانتهاكات الإسرائيلية، حيث سبق أن ركزت هذه المنظمات على استهداف المدنيين واستخدام القوة المفرطة وتجاهل قواعد القانون الدولي الإنساني، وهي نفس المحاور التي أشار إليها تقرير هآرتس.

أكدت منظمة العفو الدولية في تقارير سابقة أن السياسات الإسرائيلية تجاه غزة تظهر نمطًا ممنهجًا من العقاب الجماعي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بينما أشارت هيومن رايتس ووتش إلى وجود ممارسات يمكن أن تصنف كجرائم حرب. بالتالي، يعزز التقرير مصداقية هذه المنظمات ويوفر شهادة من الداخل تعمق فهم السياق المنهجي لهذه الانتهاكات.

خلاصة القول

يتعين على المجتمع الدولي أن يضطلع بمسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه الجرائم الموثقة في تقرير "هآرتس"، من خلال تبني نهج حازم يستند إلى مبادئ نورمبرغ لعام 1945 التي تكرس المسؤولية الفردية عن الجرائم الدولية، بغض النظر عن الأوامر العليا أو المناصب الرسمية.

ونوصي بشدة بتفعيل مبدأ "الولاية القضائية العالمية" لضمان محاكمة الجناة أمام المحاكم الدولية أو الوطنية المختصة، وتطبيق اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لعام 1968 لضمان استمرار الملاحقة القانونية بغض النظر عن مرور الزمن.

ورغم وضوح هذه المبادئ والاتفاقيات، فإن الانتهاكات المروعة التي يكشفها التقرير تعكس تقاعسًا خطيرًا عن احترامها وتطبيقها، مما أدى إلى إهدار كرامة الإنسانية بهذا الشكل الفظيع.

وللخروج من هذا الواقع المرير، لا بد من توفير بيئة سياسية مواتية تعزز إعمال القواعد الأخلاقية والقانونية للحروب، وتتيح مساءلة جميع المجرمين دون استثناء. كما يجب أن يتحلى المدعي العام وقضاة الغرفة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية بالشجاعة اللازمة في التعامل مع هذه الجرائم، بما يضمن تفعيل العدالة الدولية بشكل فعال.

إن رؤية الكلاب وهي تنهش جثث الفلسطينيين هو قمة الوحشية وإهانة غير مسبوقة لكرامة الإنسان وحرمة الموت.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة